[color=blue] محمد المودني .
(1 )
الخيال عسل ننغمس فيه والواقع علقم نغرق فيه ... هذا هو حالنا من
الأندلس إلى العراق وما بينهما ... و " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم " .
(2)
في كبد الليل استنثرت الصدور حمم الزفرات والآهات ، والأنين والعويل ... وتلاحمت الأنياب الضالة تحت أضواء باهتة لفها دخان أسود قذفت به مدافع الشياطين فجرفت التربة ورد مت الأخضر واليابس.
رياح عاتية هبت مزمجرة فوق قمة الجبل لامست لفحاتها الباردة أحياء ترقد في حضنه تحت ركام المتناقضات ... أجساد ملوثة افترشت العتبات والتحفت بجرائد أصابها الجدام من كثرة نفاقها ، بطونها انتفخت ببركة الصيام المؤبد وعقولها غطت في نوم عميق ... وأخرى شحيحة انتشت بأحلام عسلية إغتصبتها بإصرار وترصد . بين مطرقة الإغتصاب وسندان التسول والإجرام أجساد غرقت حتىالنخاع في جوف الأرق المرتجترعلى ضفتي الليل والنهار أحلاما لاتنتهي . الرياح عزفت على أوتار الشبابيك ألحانا حزينة رثتها وأد نومها في الأرحام ، حبات المطر العنيف نقرت زجاج النوافذ ، نسائم البرد تسللت بين شقوقها ولامست رأسه المتكيء على وسادة تفوح منها رائحة موسمية وقد تكوم تحت لحاف قتلت السنون دفأه ... كان ينظر للشاشة بعيون شبه نائمة تداعبها كوابيس اليأس المزمن ، ينتقل من محطة لأخرى في توتر حاد ... لا جديد يبشر بإندثار البؤس المديد ويرسم على شفتيه بسمة فقدها منذ أن أسقطه المخاض إلا جديد الإغتصاب والنهب والتسول والنفاق بأصوات ألفها وإن إختلفت صورها ...
تنهد في حرقة ، إبتلع مرارة يأسه الأليف ، ظغط بعنف على زر التلفاز، أطفأ المصباح الحزين ... بقيت الأجساد الصغيرة نائمة في أحضان أحلام بريئة تدفئها أنفاس أم تكابد بإبرها لتحقيق أمانيا مشروعة ... جر هيكله المثقل بأكوام الآهات إلى غرفته يلوك زفرات حارقة تقذفها أحشاء مزقتها مخالب مصاصي الدماء ، أغلق الباب بهدوء ... فتح نصف النافذة لستنشق الغرفة نسائم الهواء البارد وتلفظ الروائح العفنة ...
حبات المطر تتكسر على زجاج النافذة وتتطاير ذراتها بين ضلوع الغرفة ...أدلى برأسه إلى الشباك ، غسل الدرب بنظرات خاطفة ...
سيول جارفة تقذف بها السماء بسخاء لم يعهده منذ زمن بعيد ، وأمواج أثقلتها العفونة البشرية تتلاطم بين ضفتي الشارع الطويل تغسل وجه الأزقة والدروب من نتانة القمامة وأسراب الذباب والباعوض ... بقي متسمر بين الدفتين الزجاجيتين وقطرات الماء تنزل من رموشه وشواربه ، يتأمل كرم السماء بإنبهار وقد علت محياه المبلل فرحة طفولية ورسمت على شفتيه ابتسامة وردية أزاحت عن قلبه فرشة اليأس اللعين وسرت في عروقه رعشة الأمل المباغث ...
مفرقعات الغيث انفجرت خيرا على وجه الأرض الميتة وارتوت عروق التربة المباركة وانتعشت شرايين الحياة ... أمطار طالما إنتظرها العباد والبهيمة والنبات بعدما هاجرت سماء تلوثت بردة معلنة وغضبت على أرض إكتضت بعقول منافقة وقلوب ميتة تفترس صغارها دون رحمة وتنام في عسل الكبائر تتبادل نخب الذل والعار ... غاص في أرشيفه ينبش في ذكريات الطبيعة...
- مللنا الأمطار، يا أبي ، وإشتقنا لأشعة الشمس التي لم تطلع علينا منذ عشرين يوما...
قال لوالده والتنور يتوسط الغرفة يبعث في أركانها دفأه حيث انكمش كل أفراد الأسرة جماعة تحت غطاء صوفي وقد أغلقت كل منافذ البيت الطيني وانقطعت أواصر الإتصال بين البيوتات المتناثرة على رقعة القرية بعدما اكتسحها الظلام المخيف ، وضوء القنديل الخافت يوحي بنبضات الحياة...
- استحيي يا ولدي ، هذا أمر الله فلا اعتراض على قضائه ... عشرون يوما خمس موسم الأمطار وما زلنا في بدايته ، هذا شيء ألفناه يا إبني ... فاستغفر ربك...
- أستغفر الله العظيم وأتوب إليه ، يا أبي...